امرأة بين أطلال قلبها
أرادت أن تسافر لزيارة دويها فاستقلت القطار, اختارت أحد الكراسي القريبة من النافدة, جلست ساكنة تسلي نفسها بالتطلع للمناظر في الخارج, ما إن ملت حتى أخدت من حقيبتها أحد الروايات المحببة لنفسها وبدأت تقرأ, لكن السكون المحيط بها والإهتزاز الخفيف للقطار جعل عقلها يرجع لمتل هذا الموقف المألوف.
مند عشر سنوات تقريبا جلست متل هذه الجلسة في نفس هذا القطار, تساءلت بينها وبين نفسها هل حقا هذه المرأة الآن هي نفسها تلك الفتاة التي استقلت القطار مع زوجها مند عشر سنوات, بالطبع لا, أشياء كثيرة تلاشت من حياتها, أشياء جوهرية في حياتها فقدت معناها حتى تلاشت, مشاعر غريبة اقتحمت حياتها , نغصت سيرها وأمسكت بتلابيب سعادتها لتتوارى بها في أعماق سحيقة حيت لايمكن أن تصل إليها أبدا, تساءلت مجددا هل هذا القلب الذي ينبض داخلها الآن هو نفسه مند عشر سنوات, هل ينبض نفس الأحلام؟ نفس الآمال؟ نفس الأحباب؟ نفس النبضات؟ أكيد لا...
أخرجت نفسها في صعوبة من هذه الأفكار لتدخل صلب أحداث الرواية التي بين يديها, رواية مأساوية, قرأتها قبلا مرات تأتي الآن لتقرأها من جديد, ليس هناك من تشويق في مجرى الأحداث, فقد حفظتها عن ظهر قلب, لا تدري ما ترمي إليه من قراءاتها الكثيرة لها, أتريد أن تؤكد أن الملل تسرب أيضا لاختياراتها بعد أن شمل جميع حياتها, أم أنها تريد أن تقنع نفسها بأفكار صعب عليها تقبلها بالمنطق فأصبحت تحاول بالتكرار,أو ربما تريد بها أن تؤكد أن الواقع أقرب إليه من المأساة منه لتلك النهايات السعيدة المزركشة للروايات الأخرى.
عادت بها الذاكرة مجددا لجلستها القديمة في القطار حيت كانت فتاة في بداية عمر الزهور, حالمة قمة الرومانسية مبتغاها, الحب وسيلتها للتفاهم مع الناس, هذه الفتاة الصغيرة السن تقدم لها عريس, أول عريس, رجل غني كبير السن, أكبر منها بثلاثين سنة, تساءلت مجددا كما تتساءل عشرين مرة في اليوم: لماذا تزوجت به؟ كانت جميلة ولو أنها انتظرت قليلا لكانت أحبت شاب أقرب لسنها, عدرها الوحيد صغر سنها وسداجتها التي أوحت لها أنها أميرة زمانها, ستقيم أكبر حفل زفاف, ستعيش في أجمل منزل وسترتدي أحسن الفساتين وأشياء كثيرة زينتها لها أسرتها فوافقت وتزوجت به, وما إن زالت بهرجة كل الأشياء التي نالتها حتى بانت لها قيمتها الحقيقية عرفت أنها ذهبية من الخارج ومخربة من الداخل تماما كما نفسها جميلة من الخارج ترتدي أجمل الملابس وتتزين بأنفس المجوهرات من رأها سيعتقد أنها من أسعد المخلوقات على وجه الأرض, إلا أن داخلها دامس يلفه حزن, ظلام, غربة, رغبة مكسورة وضياع.
بعد أن تزوجته اكتشفت أنه أكبر مزهو بنفسه عرفته في حياتها يعلم أنه مهم بماله ويريد أن يعلم كل الناس ذلك,يعايرها دوما بأصلها الفقير ويذكرها دوما بفضله الكبير الذي انتشلها من الفقر ,حاد الطباع يعيب كل تصرفاتها ويقحم أفكاره الملتوية في كل صغيرة وكبيرة, مزاجي لا يعترف بأي حوار أو مناقشة, حين تقترح عليه الجلوس ومناقشة أمر ما يتدرع بأنه لا توجد هناك أطراف للماقشة فمستواه التقافي أكبر وأرقى من أن ينزل لمستواها المتدني العادي, فيكتفي بالقاء الأوامر وسرد العيوب, واكتشفت أيضا أنه انسان قد شارف على النسيان وودع كل رغباته في الحياة التي أخمدتها السنوات أمام رغباتها المتأججة كامرأة شابة في مقتبل العمر. طالبته بالطلاق لكن عناده أكبر من أن يمنحها حريتها.
لم تحس بالرياح حتى تطايرت صفحات الرواية, قامت لتغلق النافدة لكنها علقت, ركزت كل قوتها لكن النافدة لم تتزحزح من مكانها, ولم تدري حتى أحست بيدين قرب يديها ورجل أنيق يقول بكل لباقة:" اسمحيلي سيدتي" , أغلق النافدة وجلس أمامها عينيه لا تفارقانها, شكرته بلطف, حملت روايتها من جديد فسقطت عينيها على نهايتها التي تحوي الفقرة الأكثر مأساوية,
فساءلت نفسها هل يمكن أن تبدأ حياتها من جديد أم أن قلبها سحق من كثرة الشقاء هدم أجمل ما فيه ولم يبقى فيه إلا مجرد أطلال ورماد, رماد تلك الأحلام والأمنيات, ورماد تلك الإنسانة التي دمرها سرد العيوب وانتهاك انسانيتها بالكلام, ياااه كم يستطيع الكلام وحده أن يفعل بالإنسان, كلمة واحدة من شأنها أن تغوص بالإنسان في أعماق الحزن والمرارة, تنخر صدره بصداها الذي لا يموت تضل تنخر وتنخر وحتى لو استسلم للدموع وجفت مقلتيه فيمكن أن تغسل الدموع ذلك النخر ويمكن لا, كل هذا بفعل كلمة واحدة فما بالك بعشر سنوات من الكلام الجارح كيف سيكون قلبها ربما سيغدو جاف, قاسي أو ربما سيصبح حزين وميت, لكن هل ستستطيع إعادته للحياة وقلب صفحة الشقاء والبدء بصفحة بيضاء صافية بداية جديدة تنسى فيها كل الماضي أم أنها ستبقى حائرة بين أطلال قلبها للأبد.