اليوم نكمل جزء اخر من كتاب العلمانية
وأوربا لاتحب أن تصدق هذه الحقيقة في جاهليتها المعاصرة _ أنها حقيقة موضوعية بحتة يشهد بصحتها كل ما كتبه مؤرخوهم المنصفون عن الحضارة الإسلامية _ لأن مجرد تصديقها معناه أنهم كانوا مخطئين في نبذهم (( الدين )) معكله بحجة فساد الدين الذي قدمته الكنيسة لهم ، وأنهم ما زالوا مخطئين إلى هذه اللحظة للسبب ذاته . . وهم لا يريدون أن يرجعوا إلى الدين بأي وسيلة من وسائل الرجوع !
مرة أخرى لانريد أن نحاسب أوروبا على انحرافاتها في مجال الدين والعقيدة ، إنما نشرح فقط خطوات ذلك الانحراف .
كانت سيطرة الدين الكنسي على الحياة الأوروبية في قرونها المظلمة أمراً سيئاً كـما قـلنا _ برغم سيطرة بعض الفضائل الدينية على الحياة وخاصة في الريف الأوروبي _ لأن الدين _ بما حواه من انحرافات جذرية في العقيدة من ناحية ، وفي فصل العقيدة عن الشريعة من ناحية أخرى ، وفي فساد ممثليه من رجال الدين وجهالتهم من ناحية ثالثة _ كان مفسداً للحياة ومعطلاً لها عن التفكير السليم .
لذلك كان نبذ ذلك الدين والانسلاخ منه أمراً ضرورياً لأوروبا إذا أرادت أن تتقدم وتنحصر وتعيش .
ولكن البديل الذي اتخذته أوروبا بدلاً من دينها لم يكن أقل سوءاً إن لم يكن أشد ، وإن كان قد أتاح لها كل العلم والتمكن المادي الذي يطمح إليه البشر على الارض ، تحقيقاً لسنة من سنن الله التي تجهلها أوروبا وتجهل حكمها ، لأنها لا تؤمن بالله ومانزل من الوحي :
}فلما نسوا ماذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيءٍ، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون { (1).
نعم ! لم تكن العبودية للأحبار والرهبان من البابوات ورجال الدين أمراً صالحاً للحياة ولو كانوا هم أنفسهم من الصالحين ، لأن العبودية لاتصح إلالله وحده ، ولاتصلح الحياة إلا إذا كانت لله وحده .
(1) سورة الأنعام (44)
فكيف وهؤلاء الأحبار والرهبان على ما كانوا عليه من الفساد والجهالة والبعد عن حقيقة الدين ؟!
} اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلاهو سبحانه عما يشركون {(1).
ولم يكن الدين الذي يحوي كل ذلك القدر من الأساطير ، ويحارب العلم ويحجر على الفكر ويفصل بين الدنيا والآخرة فيهمل الدنيا وينبذها من أجل الخلاص في الآخرة ، ويحتقر الجسد ويعذبه من أجل خلاص الروح ، ويبيح في الوقت نفسه للإقطاعيين أن يمتصوا دماء الفلاحيين ويكتنـزوا بها ويترفوا ويفسدوا، ويخذل الفلاحين عن الثورة على هذا الظلم بحجة الحصول على رضوان الله وجنته في الآخرة إن رضوا بالمذلة والظلم في الحياة الدنيا … لم يكن ذلك الدين ليسمح للحياة بالتقدم ، وهو يلفها بأغلفة سميكة من الظلام.
ويقول التاريخ _ الذي تكره أوروبا الاعتراف به إلا القلة المنصفة إن أوروبا بدأت تخرج من ظلمات الوسطى المظلمة حين احتكت بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، سواء في الحروب الصليبية أو البعوث التي بعثتها للتعلم في مدارس المسلمين في الأندلس بصفة خاصة، وفي صقلية وغيرها من البلاد التي نورها الإسلام .
بل تقول الروايات التاريخية إن رجال الدين المسيحي أنفسهم كانوا يتعاطون الثقافة الإسلامية في تلك المدارس ، أوفيما ينقل منها إلى اللغات الأوروبية ، وإنهم كانوا يترقون في مناصب الإكليروس بقدر ما يحصلون عليه من تلك الثقافة (2).
ويقول روجر بيكون ( في القرن الثالث عشر الميلادي ): (( من أراد أن يتعلم فليتعلم العربية لأنها هي لغة العلم )) .
ولقد وجدت أوروبا حين احتكت بالمسلمين عالماً عجيباً بالنسبة إليها ، ليس فيه بابوات ولارجال دين ! وليست فيه أسرار عقيدية يختص بعلمها فريق من الناس دون فريق . .
(( نبلاء! )) يستعبدون الناس دون فريق . . وليس فيه حجر على العقول أن تفكر ، ولاحجر على العلم أن يبحث ويجرب وينشر أبحاثه على الناس .
يقول (( راندال )) في كتابه (( تكوين العقل الحديث )) ( ترجمة جورج طعمه ج1 ص314 من الترجمة العربية ):
وبنوا ( يقصد المسلمين ، وإن كان يستخدم لفظة (( العرب )) تحاشياً لذكر المسلمين !) في القرن العاشر في أسبانيا حضارة لم يكن العلم فيها مجرد براعة فحسب ، بل كان علماً طبق على الفنون الصناعات الضرورية للحياة العملية ، وعلى الإجمال كان العرب يمثلون في القرون الوسطى التفكير العلمي والحياة الصناعية العلمية اللذين تمثلهما في أذهاننا اليوم ألمانيا الحديثة )).
ويقول ليوبولد فايس ( محمد أسد ) في كتابه (( الإسلام على مفترق الطرق)) ( ترجمة عمر فروخ ص39-40 من الترجمة العربية ):
إن العصور الوسطى قد أتلفت القوى المنتجة في أوروبا . . كانت العلوم في ركود وكانت الخرافة سائدة ، والحياة الاجتماعية فطرية خشنة إلى حد من الصعب علينا أن نتخيله اليوم في ذلك الحين أخذ النفوذ الإسلامي في العالم _ في بادىء الأمر بمغادرة الصليبيين إلى الشرق وبالجامعات الإسلامية الزاهرة في أسبانيا المسلمة في الغرب ، ثم بالصلات التجارية المتزايدة التي أنشأتها جمهوريتا جنوة والبندقية _ أخذ هذا النفوذ يقرع الأبواب الموصدة دون المدينة العربية )).
(( وأمام تلك الأبصار المشدوهة ، أبصار العلماء والمفكرين الأوروبين ، ظهرت مدنية جديدة ، مدنية مهذبة راقية خفاقة بالحياة ، ذات كنوز تقافية كانت قد ضاعت ثم أصبحت في أوروبا من قبل نسياً منسياً . ولكن الذي صنعه العرب كان أكثر من بعث لعلوم اليونان القديمة . . لقد خلقوا لأنفسهم عالماً علمياً جديداً تمام الجدة . . لقد وجدوا طرائق جديدة للبحث وعملوا على تحسينها ، ثم حملوا هذا كله بوسائط مختلفة إلى الغرب . ولسنا نبالغ إذا قلنا إن العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه لم يدشن في مدن أوروبا النصرانية ، ولكن في المراكز الإسلامية : في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة )).
وتعلمت أوروبا كل العلم الذي وجدته عند المسلمين ، كما أخذت كثيراً من الأصول الحضارية التي وجدتها عندهم (1) ولكنها لأمر ما رفضت أن تأخذ الإسلام ، رغم السماحة الهائلة التي لمسها المسيحيون من المسلمين في الأندلس ! وارتدت من جاهلية الدين الكنسي المحرف إلى جاهلية ماقبل ذلك الدين ، الجاهلية الإغريقية الرومانية Greco-Roman لتنشئ على أساسها جاهلية جديدة متقدمة كل التقدم في العلم والتكنولجيا ( على أساس العلم الذي أخذته من المسلمين ، والمنهج التجريبي في البحث العلمي الذي استمدته منهم ) ومنتكسة أشد الانتكاس فيما عدا ذلك من جوانب الحياة .
من الإغريق أخذت عبادة العقل وعبادة الجسد في صورة جمال حسي .
ومن الرومان أخذت عبادة الجسد في صورة متاع حسي ، وتزيين الحياة الدنيا بكل وسائل العمارة المادية إلى أن يستغرق الإنسان في المتاع وينسى (( القيم )) التي تكو الإنسان . كما أخذت شهوة التوسع الحربي واستعباد الأمم الضعيفة لحساب الدولة (( الأم )) في صورة إمبراطوريات .
والمهم _ بالنسبة لبحثنا الحاضر _ أنها بدأت تنبذ الدين !
* * *
قامت النهضة على أسس معادية للدين من أول لحظة .
قامت على أصول (( بشرية )) بدلاً من الأصول الدينية أو الإلهية كما كانت تصورها لهم الكنيسة .
كان الدين الذي قدمته لهم الكنيسة على أنه الدين الإلهي ديناً لا يقيم وزناً للحياة الدنيا بل يحتقرها ويزدريها ويدعو إلى إهمالها وعدم الالتفات في سبيل الحصول على (( الخلاص ))
انظر كتاب (( شمس الله تشرق فوق الغرب )) تأليف الكاتبة الالمانية زيجريد هونكة ، وانظر فصلاً بعنوان ( المسلمون في أسبانيا) فنونهم وصناعتهم وما كان لهم من فضل في ثقافة أوروبا في العصر الحديث بقلم ج.ب.ترندG.B.Trend من 729-760 من الترجمة العربية لكتاب (( تاريخ العالم )) نشر وزارة التربية والتعليم المصرية .
خلاص الروح ، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بالتجرد من متاع الأرض ، والاستعلاء على مطالب الجسد ، والتطلع إلى ملكوت الرب الذي يتحقق في الآخرة ولاسبيل إلى تحقيقه في الحياة الدنيا . ومن ثم فإن (( حركة التاريخ )) ومحاولة تصحيحها بتصحيح حـركة المجتمع
كـما يقـول ولفـلرد كانـتول سميت Wilfred Cantwell Simth td في كتاب ( الإسلام في التاريخ الحديث Islam in Modern History ) : (( لم تكن في حساب الكنيسة المسيحية لا أيام ضعفها في القرون الأولى ولاحين أصبح لها السلطان))(1). إنما يسعى كل إنسان إلى خلاصه الشخصي ، كالذي يسير على معبر دقيق كل همه أن يشمر ثيابه ويلتفت إلى مواقع قدميه حتى لا ينـزلق أو يتلطخ بالوحل ، لا يهمه أن يصحح مواضع أقدام الآخرين أو يقيهم من الانزلاق .
ومن هنا فإن هذا الدين في صورته الكنسية تلك لم يكن يسعى إلى تحسين أحوال البشر على الأرض ، أو إزالة المظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تقع عليهم ، وإنما يدعو إلى الزهد في الحياة الدنيا برمتها ، وترك كل شيء على ما هو عليه ، لأن فترة الحياة الدنيا أقصر وأضأل وزناً من أن يحاول الإنسان تعديل أوضاعه فيها . إنما يسعى جاهداً إلى الخلاص منها دون أن يعلق بروحه شيء من الآثام . والمتاع ذاته هو من الآثام التي يحاول المتطهرون النجاة منها بالرهبنة واعتزال الحياة .
بل أكثر من ذلك : إن احتمال المشقة في الحياة الدنيا ، واحتمال ما يقع فيها من المظالم هو لون من التقرب إلى الله يساعد على الخلاص . ومن ثم دعت الكنيسة الفلاحين للرضا بالمظالم التي كانت تقع في ظل الإقطاع وعدم الثورة عليها لينالوا رضوان الله في الآخرة وقالت لهم : (( خدم سيدين في الحياة الدنيا خير ممن خدم سيداً واحداً ))!
ومن جهة أخرى كان هذا الدين يحصر كيان الإنسان في نطاق محدود محصور أشد الحصر ليبرز جانب الألوهية في أكمل صورة .
_____سنكمل البقية من الكتاب فى حلقات اخرى
تقبلو تحياتى
اخوكم
زكريا دياب
_________________________________________